الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومما ينزل من السحب الركامية البرد الذي عادة ما يصاحب بالعواصف البرقية الرعدية، ويصل حجم حبيباته إلي عدة سنتيمترات في طول قطرها، وتكون في هذه الحالة ظاهرة مدمرة خاصة للنباتات ولبعض الحيوانات وبالتالي للإنسان، كما قد تصيب بعض المنشئات بأضرار بالغة، ومن هنا كان البرد من جند الله، ينزله حسب تقديره ومشيئته في المكان والزمان المحددين انتقاما من العاصين، وابتلاء للصالحين، وعبرة للناجين.{يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} والضمير في برقة يعود علي البرد، بمعني أن مرد ظاهرة البرق يعود إلي البرد وهي حقيقة لم تدركها العلوم المكتسبة إلا في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، والسنا هو الضوء الساطع، و{سنا برقه} أي شدة ضوء برقه، و{يذهب بالأبصار} أي يخطفها فيفقدها البصر بالتماعها من شدة ضوء البرق، فسبحان الذي نسب ظاهرة البرقللبرد من قبل ألف وأربعمائه سنة، ولم يدركها الإنسان إلا في أواخر القرن العشرين.كيفية تكون البرد في داخل السحب الركامية تصل قمم السحب الركامية عادة إلي ارتفاعات قد تتجاوز الخمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر أي تتجاوز نطاق الرجع بأكمله، وفي هذه الارتفاعات الشاهقة تنخفض درجة الحرارة انخفاضا شديدا حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء، كذلك يتناقص الضغط الجوي من سطح البحر باستمرار مع الارتفاع حتي يصل إلي واحد من ألف من قيمته بعد ارتفاع مقداره 48 كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر، وتعين هذه الظروف علي تكثف بخار الماء في السحابة ونمو قطيرات الماء فيها إلي أحجام تعتبر نسبيا كبيرة، وتجمد هذه القطيرات علي هيئة بلورات الثلج في قمم السحب الركامية العالية إذا توافرت لها نوي التبلور، ويتحول في وسطها إلي خليط من البرد والماء الشديد البرودة، ويتكون البرد في درجات أقل من الصفر المئوي وحتي أربعين درجة مئوية تحت الصفر، ويتكون البرد في الأجزاء الوسطي من السحب الركامية نتيجة لسقوط بلورات الثلج من قمم تلك السحب إلي أواسطها حيث تكثر قطيرات الماء المبرد تبريدا شديدا والتي تتجمد، بمجرد اصطدامها بالكتل الثلجية الهابطة والتحامها بها أو باصطدامها مع بعضها البعض فتتكون كرات أو أقراص من الثلج غير المتبلور حول نواة من بلورة أو كتلة ثلجية، أو بدونها، وذلك لأن قطرات الماء شديدة البرودة تكون في حالة غير مستقرة، فإذا اصطدمت ببعضها البعض أو بأي جسم آخر فإنها تتجمد في الحال.ولايهطل الثلج الجليد إلا في المناطق الباردة التي تصل فيها درجة الحرارة إلي مادون الصفر المئوي، وإلا مع توافر نوي التكثف الملائمة في قمم السحب الركامية.وبللورات الثلج وكذلك حبيبات البرد تنمو بتصادمها مع بعضها البعض علي هيئة صفائح رقيقة حتي تقارب أقطارها السنتيمتر فتنزل بقدر الله وحيث يشاء إلي الأرض التي قدر أن يصيبها به.ويتساقط الجليد في شتاء المناطق الباردة علي مساحات واسعة، ويظل ينمو علي سطح الأرض من سنتيمترات قليلة في السمك إلي عدة أمتار، ويسبب تجمعه فوق سطح الأرض هبوطا عاما في درجة الحرارة لبرودته مما يؤدي إلي برودة الجزء الملاصق له من الغلاف الغازي للأرض، ولقيامه بعكس نسبة كبيرة من الإشعاع الشمسي، ولذلك تبقي درجة حرارة الجو في المناطق المكسوة بالجليد في حدود الصفر المئوي أو دونه علي الرغم من سطوع الشمس، وقد يؤدي تراكم الجليد إلي شل حركة المواصلات، وإتلاف المحاصيل الزراعية لتكسرها بتجمع كتل الثلج فوقها، ولتمزق أوعيتها الخشبية بتجمد العصارة الغذائية فيها، وعلي الرغم من ذلك فقد يكون لنزول الثلج وما يصاحبه من ظواهر الصقيع مردودا إيجابيا علي بعض أشجار الفاكهة المتساقطة الأوراق إذ تحتاج هذه الأشجار لنجاح إثمارها ونموها إلي فترة من السكون خلال الشتاء بتساقط أوراقها وتكسر بعض فروعها مما يحفزها علي النمو والاثمار في الربيع والصيف التاليين، ولذلك قال تعالى: {وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء} أي يضر به من يشاء ويصرف ضرره عمن يشاء، أو ينفع به من يشاء ويصرف نفعه عمن يشاء بعلمه وحكمته وقدرته.ويبدأ تساقط الجليد عادة في مناطق خطوط العرض العالية ابتداء من شهر ديسمبر، ويستمر متقطعا طيلة فصل الشتاء، كما يغطي الجليد قمم الجبال العالية طيلة السنة تقريبا، ويسمي الارتفاع الذي تظهر عنده الثلوج الدائمة باسم حد الثلج الدائم، ويتراوح ارتفاع هذا الحد بين 1،2 كيلو متر في بلد شمالي كالنرويج إلي خمسة كيلو مترات ونصف الكيلو متر في بلد إفريقي مثل تنزانيا، وإلي ستة كيلو مترات ونصف الكيلو متر في بلد أمريكي جنوبي مثل المكسيك، وعندما يذوب بعض هذا الجليد الذي تراكم طوال فصل الشتاء في كل من فصلي الربيع والصيف قد يكون سببا في فيضان بعض الأنهار فيضانا مغرقا في بعض الحالات.دور البرد في حدوث ظاهرة البرق إلي منتصف الثمانينيات من القرن العشرين بقي تعريف البرق بأنه تفريغ كهربي بين سحابتين تحمل كل منهما شحنة كهربية مختلفة، أو بين جزءين مختلفين من سحابة واحدة كل منهما يحمل شحنة كهربية مختلفة، وإذا ما تمت عملية التفريغ الكهربي تلك بين السحب والأرض سميت الظاهرة باسم الصاعقة.ويصاحب ظاهرة البرق انطلاق حرارة عالية قد تصل إلي عشرات الآلاف من الدرجات المئوية مما يؤدي إلي تسخين فجائي وشديد لكتل من الهواء التي ينتشر البرق فيها فتتمدد فجأة، وينتج عن تمددها سلسلة من أمواج التضاغط والتخلخل في الهواء المحلي ينتج عنها أمواج صوتية علي هيئة جلجلة أو فرقعات شديدة تظل تتردد وتنعكس بين السحب الركامية وقواعدها، وبينها وبين الغلاف الغازي للأرض أو المرتفعات المحيطة بها، أو بينها وبين سطح الأرض مباشرة، وتعرف هذه الموجات الصوتية وتردداتها ورجعها باسم الرعد.في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين أثبتت التجارب المختبرية أنه عند انصهار الثلج تتولد شحنات كهربائية لاتتوقف حتي تتم عملية الانصهار.وعلي العكس من ذلك أثبتت التجارب المعملية أن الماء عند تجمده من محلول ملحي يتولد تيار كهربائي مصاحب بفرق جهد كهربي ملحوظ بين كتلة الثلج والمحلول المائي المالح المغموسة فيه وعلي السطح الفاصل بينهما، وأن هذا الفرق في الجهد الكهربي يتلاشي باكتمال عملية التجمد.كذلك ثبت أن شحنة كهربائية يمكن أن تنتقل بين بلورتين من بلورات الثلج بمجرد اصطدامهما، وقد أشارت هذه النتائج المعملية إلي إمكانية أن يكون نمو بلورات الثلج وحبيبات البرد وانصهارها داخل السحب الركامية هو أحد أسباب تولد الشحنات الكهربائية في داخل تلك السحب، وبالتالي لتكون ظاهرتي البرق والرعد فيها:وبعد ذلك لاحظ إخصائيو الأرصاد الجوية أن تيارا كهربائيا يتولد في أثناء سقوط كل من الثلج والبرد والمطر وأنه ينساب إلي أعلي، في اتجاه معاكس لاتجاه سقوطها من السحب الركامية.وفي منتصف الستينيات من القرن العشرين ثبت بالملاحظة تولد قوة كهربائية عند تلامس قطعتين من الثلج في درجتي حرارة مختلفتين أو عند انزلاق إحداهما علي الأخري وذلك بالتأثير الحراري، وأن وجود فقاعات هوائية حبيسة في داخل تلك البلورات الثلجية يؤثر في نوع الشحنة الكهربائية من ناحية كونها موجبة أو سالبة.كذلك تتولد شحنات كهربائية عند تصادم قطرات الماء الشديدة البرودة مع بلورات الثلج أو حبات البرد أو مع أي خليط منهما ومعني ذلك أن شحنات كهربائية تتولد عندما يتحول الماء من حال إلي حال: من الماء شديد البرودة إلي البرد أو إلي الثلج، كما تتولد عند تصادم أو ملامسة أي من هذه الحالات مع بعضها البعض، وكلما طرأ علي كل حالة من حالات الماء الصلبة والسائلة والغازية طاريء يغير من شكلها أو حجمها، أو كتلتها، أو درجة حرارتها.هذه التجارب والملاحظات المتكررة انتهت في الثمانينيات من القرن العشرين إلي اعتبار البرد بمعناه الشامل للماء شديد البرودة، ولحبات البرد ولبلورات الثلج، هو المولد الحقيقي لشحنات الكهرباء ومن ثم لظاهرة البرق.وحبات البرد هي تلك الحبات الكرية وشبه الكرية التي تتكون من راقات من الثلج علي هيئة إضافات متتالية لثلج جاف غير متبلور علي هيئة الزبد فوق إحدي نوي التبلور، سواء كانت تلك النواة بلورة من الثلج أو قطعة منه أو هباءة من الغبار أو الهباب الناجم عن عمليات الاحتراق المختلفة، أو مما تقذف به البراكين عبر فوهاتها من غازات وأبخرة، أو ماينتج عن احتراق الشهب باحتكاكها بالغلاف الغازي للأرض في أجزائه العليا، أو من الأملاح المختلفة التي يمكن أن تحملها الأبخرة المتصاعدة من أسطح البحار والمحيطات، أو غير ذلك من ملوثات الهواء.وعندما يتم تكثف بخار الماء تحت الصفر المئوي بحوالي الثلاثين درجة فإنه يتحول إلي ثلج مباشرة عند توافر نوي التكاثف الصلبة، دون مروره بمرحلة قطران الماء السائل، أما إذا حدثت عملية التكثف في هذه الدرجات المنخفضة من الحرارة دون توافر نوي التكثف الصلبة تتكون نقط من الماء شديد البرودة الذي لايتجمد علي الرغم من الانخفاض الشديد لدرجة الحرارة إلي ما دون درجة تكون الجليد، وتظل نقط الماء الشديد البرودة تلك في حالة من عدم الاستقرار يجعلها قابلة للتجمد بمجرد تصادمها مع بعضها البعض أو مع أي جسم صلب، وبذلك يتكون البرد، وبتكونه ينشأ البرق، ويصاحبه الرعد، وتنزل الثلوج والبرد وتهطل الأمطار بإذن الله، وذلك لأن ضغط التشبع بالنسبة للماء السائل أكبر من ضغط التشبع بالنسبة إلي الثلج في نفس درجة الحرارة، ومن هنا فإن سحابة ركامية بها مقادير كافية من قطرات الماء الشديد البرودة تصبح مهيأة لإنزال المطر بإذن الله تعالى بمجرد تجمد تلك القطرات.والسحابات الركامية عادة ماتكون لها قمم ناصعة البياض لتوافر بلورات الثلج فيها، وبمجرد تساقط شيء من تلك البلورات الثلجية إلي المنطقة الوسطي من السحابة وهي غنية بقطرات من الماء الشديد البرودة يبدأ البرد في التشكل، وتنشط ظاهرتا البرق والرعد، وتكون السحابة مرشحة لإنزال الماء بأمر من الله تعالى وبرحمة منه وفضل علي هيئة رخات قليلة تبدأ من وسط السحابة، ثم لاتلبث أن تنتشر في كل قاعدتها.ومصدر الشحنات الكهربائية المندفعة من السحب الركامية إلي سطح الأرض وبالعكس أثناء هطول كل من الأمطار والثلوج يوجد علي ارتفاعات تكاد تنحصر بين سطحين في الغلاف الغازي للأرض تتراوح درجتي حرارتهما بين (15) درجة مئوية تحت الصفر، و(25) درجة مئوية تحت الصفر، وعلي الرغم من اختلاف أنواع السحب الركامية مكانا، وزمانا، وبناء، وفي عوامل التكوين إلا أن هذا الحيز الحراري يبقي ثابتا.ويصحب عملية تكون كل من الثلج والبرد تخلق مجال كهربائي إذا وصل تركيز بلورات الثلج في الحيز المحصور بين-15 م،-25 م إلي عشر بلورات في اللتر الواحد.من هنا توصل العلماء في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين إلي أن البرد بمعناه الواسع هو السبب الرئيسي في تكون ظاهرة البرق والتي يصاحبها الرعد بإذن الله تعالى، وهي حقيقة سبق القرآن الكريم بتأكيدها من قبل ألف وأربعمائة سنة وذلك في الآية التي نحن بصددها رقم (43) من سورة النور التي أكدت إزجاء السحاب، ثم التأليف بينه، ثم جعله ركاما، ثم إنزال الودق من خلاله، وفصل بين المراحل الثلاث الأولي بحرف العطف {ثم} الذي يفيد الترتيب مع التراخي لأن كل مرحلة منها تستغرق فترة زمنية حتي تتم، فلما وصل إلي المرحلة الرابعة فصلها بحرف العطف ف والذي من معانيه الترتيب مع التعقيب لأن نزول المطر بإذن الله تعالى يتم بعد إتمام عملية الركم مباشرة، وأن هذا الماء ينزل من خلال وسط قاعدة السحابة الركامية أولا وهي منطقة ضعف تنتج عن توقف اندفاع تيارات الهواء الصاعد أو ضعفها، وغلبة تيار الهواء الهابط عليها، ثم بعد ذلك ينزل من جوانب قاعدة السحابة أو منها كلها.كذلك فإن وصف السحب الركامية بلفظ الجبال، وقصر نزول البرد عليها، وحدوث البرق بلمعانه الخاطف، ونسبة البرق إلي البرد، كل ذلك من الحقائق العلمية التي لم تصل إليها المعارف المكتسبة إلا بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلاف العلماء، ومئات السنين حتي تبلور شيء من فهم الانسان لها في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وسبق القرآن الكريم بالاشارة إليها في آية واحدة نري فيها من الإيجاز، والشمول، والكمال، والجمال، والدقة في التعبير والإحاطة بالمعاني مالا يقدر عليه إلا الله الخالق سبحانه وتعالي فلم يكن لأحد من البشر إدراك لهذه الحقائق الكونية إلا في العقود الثلاثة الماضية، فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد الذي تلقي هذا القرآن عن ربه، والحمد لله الذي أنزل هذا القرآن بعلمه، وحفظه بوعده وعهده. اهـ.
|